كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ذهب المفسرون مذاهب في المراد من قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فمنهم من ذهب إلى أن المراد لا تعتقدوا تحريم ما أحل اللّه.
ومنهم من قال: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحل اللّه.
ومنهم من قال: لا تجتنبوا ما أحل اللّه اجتنابا يشبه اجتنابكم لما حرم اللّه.
ومنهم من قال: لا تحرّموا على غيركم بالتقوى ما أحل اللّه.
ومنهم من قال: لا تحرّموا على أنفسكم بنذر أو يمين، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1].
ومنهم من يرى أن المراد النهي عن أن يغصب شيئا ويخلطه بماله فيحرم ماله، لعسر تمييزه عن المخلوط به.
وأنت ترى أنه لا مانع من إرادة كل هذه الوجوه من الآية، فهي تحتملها جميعا، ولا داعي لتخصيصها بالبعض.
{وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. أي: لا تعتدوا بتحريم الطيبات، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحملنكم النهي عن تحريم الطيبات إلى استعمالها على وجه الإسراف، على حد قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ويحتمل أن يكون المراد: اقتصروا على ما أحل اللّه لكم من الطيبات، ولا تجاوزوها إلى ما حرّم عليكم.
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} أي كلوا ما أحلّ لكم وطاب مما رزقكم اللّه. (فحلالا) مفعول (لكلوا) و(مما رزقكم اللّه) حال منه، وسوغ مجيئها من النكرة تقدّمها عليها.
ويستدل بالآية على أن الرزق اسم يتناول الحلال والحرام، ولو كان خاصا بالحلال لما كان لوصفه به كبير فضل.
وتذييل الآية بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ بعث على المحافظة على ما أوصاهم به، والمداومة عليه، وقد أمر اللّه بالتقوى عقب النهي عن تحريم الطيبات، والأمر بالأكل من الرزق الطيب الحلال، ليشعرنا أنه لا منافاة بين التلذذ بالطيبات من الرزق وبين. التقوى، غير أنّه يجب أن تكن تقوى اللّه رائدنا فيما نقدم عليه من عمل، فلا نسرف، ولا نقتر، ولا نضارّ أحدا.
والآية بعمومها دليل على حرمة الرهبانية.
وقد جاء النهي عنها صريحا في «القرآن» وفي السنة، فقد صرح «القرآن» بأن الرهبانية مبتدعة.
وجاء في السنة من طرق كثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني».
والآية على هذا في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
قال اللّه تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} قيل في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهم لما حرّموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس. حلفوا على ذلك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
واللغو من القول الساقط الذي لا يعتدّ به، وهو في اليمين الذي لا يتعلق به حكم.
وقد اختلف السلف في تعيينه شرعا، فعن عائشة أنها قالت: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «هو كلام الرجل في بيته، لا واللّه، وبلى اللّه».
وروي عنها أنّها قالت: لغو اليمين لا واللّه، بلى واللّه.
روي عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر أنه كذلك.
وروي عنه أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وذهب بعض العلماء إلى أن اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد بسبق اللسان.
ويرى بعضهم أنّ اللغو أن تحلف على المعصية تفعلها، فينبغي ألا تفعلها، ولا كفارة فيه، واستدل له بحديث عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها. فليتركها، فإنّ تركها كفارة».
واختلف فقهاء الأمصار فيها أيضا فذهب الحنفية إلى أن اللغو هو: الحلف على شيء مضى وأغلب ظنه الصدق. وحكى الجصاص أنّ ذلك مذهب مالك والليث والأوزاعي.
ونقل عن الربيع عن الشافعي أنّ من حلف على شيء أنّه وقع وهو يظنه كذلك فعليه كفارة، وكأن الشافعي رضي اللّه عنه لا يرى اليمين في مثل هذا المثال لغوا، بل يراها يمينا معقودة.
وقد تقدم الكلام في سورة البقرة في بيان مذاهب الفقهاء في اليمين اللغو والغموس والمنعقدة، وهي أيضا معروفة في الفقه، وكذلك أحكامها، حيث يجعل الحنفية الأقسام الثلاثة متباينة في الحكم، فاللغو لا شيء فيه، وكذلك يقول جميع الفقهاء.
إنما الكلام عندهم فيما هو حكم اللغو والغموس:
يرى الحنفية أن جزاء الغموس الغمس في جهنم، وأنّها لا تكفر. والشافعية يقولون: إنّ الغموس تكفّر، لأنّ اللّه يقول: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، ومن تعمّد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به، لأنّه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال اللّه فَكَفَّارَتُهُ إلخ.
والحنفية يقولون: إنّ اليمين الغموس هي المذكورة في قوله: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]
والمؤاخذة بها هو عقاب الآخرة. ويدل له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة.
وقد روى جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «من حلف بيمين آثمة على منبري هذا فليتبوأ مقعده من النار».
ولم يذكر الكفارة.
والمسألة مبسوطة في كتب الفروع. {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ} يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي بتعقيدكم الأيمان، وتوثيقها بالقصد والنية.
ويحتمل أن تكون (ما) موصولة، والعائد محذوف، أي بما عقدتم الأيمان عليه.
والمعنى: لكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم الأيمان عليه، أو بنكث تعقيدكم اليمين.
ويحتمل أن يكون المعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمين إذ حنثتم، وحذف الشرط للعلم به، وقد عرفت أنّ الشافعية يدخلون الغموس في اليمين المعقودة، ففيها الكفارة عندهم، والحنفية يقولون: لا كفارة في الغموس.
فَكَفَّارَتُهُ أي فكفارة يمينكم إذا حنثتم، أو فكفارة نكثه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالا، وأما إذا كانت صوما فلا، حتى يتحقّق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية، حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين، من غير ذكر الحنث، وقال اللّه تعالى: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ} وقاسوها أيضا على إخراج الزكاة قبل الحول. وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلا بعد الحنث ووجوب التكفير.
والحنفية يرون أنّ الآية فيها إضمار الحنث، وهو متعيّن، إذ لم يقل أحد ولا الشافعية بوجوب الكفارة قبل الحنث، فالحنث وإن لم يذكر إلا أنه معلوم، فهي على حد قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] حيث كان وجوب العدة مرتبا على الإفطار المقدّر.
ونحن نرى أنّ الآية لا تصلح شاهدا لواحد من الطرفين.
{مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} لا من جيده فيقع الحيف عليكم، ولا من رديئه فتبخسوا المسكين حقه، ويجوز أن يكون المراد من أوسطه في المقدار، أي: إذا كان فرد يأكل كثيرا، أو فرد يأكل قليلا فتوسطوا بين المقدارين، وأطعموا المسكين هذا الوسط. وقدّره الشافعية بمدّ لكل مسكين، والحنفية قدّروه بما يجب في صدقة الفطر.
والجار والمجرور مِنْ أَوْسَطِ متعلّق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط.
{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على {إطعام} إما باعتبار أن الكسوة مصدر، أو على إضمار مصدر.
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وقد اشترط الشافعية فيها الإيمان، لأنّ النص لم يقيّد هنا، وقيّد في مواضع أخر كالقتل مثلا، فدل ذلك على أنّ القيد حيث وجد فهو مقصود.
والحنفية لا يرون هذا.
إلى هنا نصّت الآية الكريمة على أنّ كفارة اليمين الإطعام، أو الكسوة، أو التحرير.
وقد اختلف العلماء في متعلّق خطاب التكليف، فذهب بعض المعتزلة إلى أنّ الواجب الجميع، ويسقط بالبعض.
وقيل: الواجب واحد بعينه عند اللّه، ويتعين بفعل المكلف، فيختلف بالنسبة للمكلفين.
وقيل غير هذا، والمسألة معروفة في علم الأصول، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ واشترط الحنفية فيها التتابع، وهو مذهب ابن عباس ومجاهد، وأخرج الحاكم وابن جرير وغيرهم من طريق صحيح أنّ أبي بن كعب كان يقرأ الآية هكذا {ثلاثة أيام متتابعات} وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات}.
وأما الشافعي فلا يشترط التتابع، لأنه يرى أن هذه قراءات شاذّة لا يحتجّ بها، ولعلها لم تثبت عنده.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوا أنفسكم من الحنث فيها، أو لا تبذلوها وأقلوا من الحلف، فإنّ ذلك مسقط لهيبتكم، وهو حينئذ في معنى قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] ومنه قول الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ** إذا بدرت منه الأليّة برّت

وقيل: إنّ معنى ذلك راعوها حتى لا تحنثوا فيها، فتلزمكم الكفارة.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي مثل هذا البيان الشافي بيّن اللّه لكم أحكامه، لتشكروه على ما أنعم عليكم.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} الخمر: اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة، أيا كان نوعها، أو هو خاصّ بما كان من ماء العنب النيّئ الذي غلى واشتد وقذف بالزبد.
يرى الحنفية أنّ الخمر حرّمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا، لأنّ اللغة لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر.
ويرى غيرهم أنّ الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه، فغير ماء العنب حرام بالنص إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلخ.
والواقع: أنه قد وردت آثار مختلفة في معاني الخمر، فقد روي عن ابن عمر أنّه قال: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء..».
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل ذلك على أن ابن عمر وهو عربي ما كان يرى أنّ اسم الخمر يتناول هذين.
وفي مقابل هذا روى عكرمة عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ نقيع البسر، وهذا يدل على أنّ ابن عباس يرى أنّ غير العنب يسمى خمرا.